A place where you need to follow for what happening in world cup

أرجوزة البصارة… سلاح المغاربة في شتاء البرد والزمهرير

0 20

 

بقلم: جميلة غطاس

في ذاكرة الأطباق الشعبية المغربية، تحتل “البصارة” مكانةً فريدةً، لا باعتبارها مجرد أكلةٍ تقليدية، بل لكونها طقسًا شتويًا متوارثًا يختزن في تفاصيله قصة مقاومة الفقراء لزمهرير البرد. إنها وجبةٌ دافئةٌ بلمسةٍ تاريخية، تشهد على عبقرية المطبخ المغربي في تحويل أبسط المكونات إلى وليمةٍ دسمةٍ تمنح الطاقة وتملأ البطون الجائعة.   

رحلة البصارة عبر الزمن

تعود جذور “البصارة” إلى عمق المطبخ الأمازيغي والشعبي المغربي، حيث استُخدمت الفول المجفف أو الجلبانة المجففة (البسلة) لصنع هذا الحساء الكثيف المغذي. وقد ارتبطت هذه الأكلة، منذ القدم، بفئات الكادحين من الفلاحين والعمال، الذين كانوا يتخذونها وجبةً أساسيةً تمنحهم القوة لمواجهة قسوة المناخ، سواء في الحقول أو ورشات البناء أو الأسواق الأسبوعية.     

ويُقال إن “البصارة” استمدت اسمها من اللفظ العربي “بَصَرَ”، أي الرؤية، إذ كان يُعتقد أنها تقوي النظر لغناها بالبروتينات والفيتامينات. كما يُرجح أن جذورها تمتد إلى العهد الأندلسي، حيث كانت الحساء المفضل لدى الطبقات البسيطة، قبل أن تنتشر في أرجاء المغرب وتأخذ طابعها المحلي الخاص.

طبق الفقراء… سيد الموائد الشتوية

رغم بساطة مكوناتها، إلا أن البصارة تعتبر طبقًا متكاملًا يجمع بين الطعم اللذيذ والفوائد الغذائية. تُطهى الفول أو الجلبانة مع الثوم وزيت الزيتون والكمون، ثم تُطحن حتى تصبح حساءً متماسكًا، يُقدَّم ساخنًا مع زيت الزيتون، ورشات الكمون، والفلفل الأحمر الحار لمن يرغب في نكهةٍ أقوى. وترافقها عادةً خبزة الشعير أو القمح الساخنة، التي تغمس في الطبق، لتكتمل وجبةٌ تمنح شعورًا بالدفء والامتلاء.   

وفي الأسواق الشعبية والمقاهي التقليدية، لطالما كانت البصارة حاضرةً في الصباحات الباردة، حيث يجتمع العمال والزبائن حول أوانٍ فخارية تفوح منها رائحة البساطة والحنين.

البصارة… من الشعبية إلى العالمية

اليوم، لم تعد البصارة حكرًا على الفئات البسيطة، بل أصبحت جزءًا من قائمة الطعام المغربية في المطاعم الراقية، حيث يُعاد تقديمها بلمسات عصرية مع إضافة لمسات جديدة، لكنها تحتفظ بروحها الأصلية.

قد تكون البصارة أكلة الفقراء، لكنها في الحقيقة كنزٌ غذائيٌّ يعكس الهوية المغربية، ويُخلّد فلسفة التواضع والابتكار التي صنعت مجد المطبخ المغربي. فحين تعصف رياح الشتاء القاسية، تظل هذه الأكلة درعًا صامدًا في وجه البرد، مثل أرجوزة شعبية تتردد في كل بيت ومقهى، معلنةً أن الدفء الحقيقي ليس في النار، بل في الأطباق التي تحمل نكهة التاريخ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.