بقلم جميلة غطاس
منذ أن نظر الإنسان إلى السماء متسائلًا عن سر النجوم ومواقعها، سعى إلى ابتكار أدوات تساعده على فك ألغاز الكون. ومن بين أعظم تلك الأدوات التي خطّها العقل العربي بحروف المجد، يبرز الأسطرلاب كتحفة علمية، وميراث حضاري، وصنيع فكري يربط بين الأرض والسماء، بين الحكمة والتجربة.
الأسطرلاب: ابتكارٌ يروي حكاية الزمن
الأسطرلاب ليس مجرد آلة حسابية، بل هو مرآة تعكس عظمة العقول التي صنعته. وإن كان الإغريق قد وضعوا أولى لبناته، فإن الفضل الأكبر في تطويره وتحويله إلى أداة دقيقة وعملية يعود إلى العرب والمسلمين، وعلى رأسهم العالم الفذ محمد بن جابر البتاني، الذي أتقن فن الفلك وصقل هذه الأداة، حتى غدت بوصلة العلماء في الشرق والغرب. كما لا يمكن أن نغفل اسم أحمد بن كثير الفرغاني، الذي أثرى علم الفلك بمؤلفاته عن الأسطرلاب، والزهراوي الذي أبدع في صناعته بتقنيات متطورة.
أداة العلم والمسير: كيف خدم الأسطرلاب الحضارة؟
لم يكن الأسطرلاب مجرد آلة لحساب الوقت أو تحديد القبلة، بل كان مفتاحًا لأبوابٍ عديدة من المعرفة، إذ استخدمه العلماء في:
- رسم خرائط السماء وتحديد مواقع النجوم والكواكب.
- حساب الزمن والتقويم الفلكي بدقة مذهلة.
- تحديد خطوط الطول والعرض مما جعله أداة أساسية في الملاحة البحرية، حيث اعتمد عليه البحارة لتوجيه سفنهم في العصور الذهبية للاكتشافات.
- إجراء الحسابات الهندسية والمعمارية، مما ساهم في بناء القصور والمساجد وفق قياسات دقيقة.
الأسطرلاب.. إرثٌ لا يغيب نوره
رغم أن التكنولوجيا الحديثة أزاحت الأسطرلاب من الاستخدام اليومي، إلا أنه يظل شاهدًا على حقبة ازدهرت فيها العقول، وتألق فيها الفكر العربي في رحاب العلوم. ومهما تقدمت الأدوات، يبقى الأسطرلاب رمزًا لعظمة الإنسان حين يسعى لاكتشاف المجهول، ويخطّ بيده دروب النور في ظلمات الجهل.
هكذا، وكما أضاء الأسطرلاب دروب البحارة والعلماء، يظل أثره خالدًا في صفحات التاريخ، يروي حكاية أمة جعلت من العلم سفينة للعبور نحو مجدٍ لا يبهت بريقه.