بقلم:صفاء ايت لشكر
نظام التفاهة بين الممنوع والمرغوب
من منا لم يحمل يوما هاتفه في ساعة كسولة، متسلقا بأصبعه سلم شاشة هاتفه الذكي باحثا عن اللاشئ وعن كل شئ ، من منا لم يقضي بضع أو عدة ساعات أمام منوعات مقاطع فيديوهات فيسبوكية أو انستغراميةاو مواقع أخرى فصارت عادة لا مفر منها ، إنه الوقت البدل الضائع ، إنه عصر التفاهة …
هنيهات تفقدية مسروقة، تتحولت بقدرة قادر إلى ساعات طويلة مديدة ، ومقاطع فيديوهات عشوائية ، تريح فيها تفكيرك من تعب يوم شاق . سلاسل فيديوهات تلد إحداها الأخرى كدمية روسية. عن ماذا أبحث الآن؟ عن قليل من الدومابين الغير المستحق ؟
ودون تردد تتراص المقاطع تباعا غير آبهة لسؤال مثل هذا ، فلذة مشاهدة اللاشئ أكثر متعة من الإجابة عن أسئلة تتعب خلايا الدماغ بعد يوم صعب كهذا
وإن كان ولابذ ، فل أشاهد الآن ما لذ وطاب لي من التفاهة ولألعنها أمام الملأ بعدما أغلق باب حديقتي السري.
لابد أن هنالك جانب دفينا، وقبرا غائرا داخل نفسنا البشرية يجرنا بكل مغناطيسيته نحو التفاهة!
ربما هي بابنا الخلفي، وسائدنا التي نصرخ في وجهها حين يحل الظلام ،، هي تلك الغرف التي لا يعرف عنها ذاك الغريب شيئا ، حين نختلي بأنفسنا بعيدا عن رقابة الغير، إنها عبارة “كهذا أريد أن اظهر أمام العالم…”
فإلى أين نمضي حاملين أدمغتنا الكسلى حينما تتعب؟
إن جيلنا هذا مافعل إلا أن امتثل لهذا النظام بل وزاد وعاث في الواقع فسادا و تفاهة ، وتفنن في نشر ومشاركة شرائط فيديوهات وتراندات تكتوكية تافهة ، تحرك بنات آلة زمن و يعود بنا الزمن نحو عصرٍ سقطت فيه بغداد ورست فيه سفن نابليون على شواطئ مصر ، عصر انحطاط …عصر انحطاط الأدب والقصيده، زمن غاب المضمون والمعنى عن الأبيات الشعرية وهجرتها الزينة والتنميق والمحسنات البديعية وأضحت باردة وخاوية المغزى، ليحقق العود الأبدي نفسه اليوم، في صيغة رقمية سريعة شريهة، جائعة تسيل الأرقام الكبرى لعابها أمامه ، تثير عدد المشاهدات غريزتها ، وتفقد أمامها مقصات الرقابة حماستها وسط معترك إنساني يصارع فيه الفرد نفسه و يكرس ثقافة الفردانية والعزلة عوضا مصارعة الأنظمة الجائعة.
“إن مجتمع السيطرة الرقمية يستغل الحرية أكبر استغلال، فبفضل كشف الذات وتعريتها الطوعيين لا يحدث إفشاء البيانات بالإكراه وإنما استجابة للحاجة الداخليه…” بيونغ تشول هان في كتابه “السياسات السيكولوجية”
ازدادت شراهة الأنظمة فصار الجميع يعتلي المنصات صارخا ليتبث وجوده ، منهم من يلقي ظلامه وسلبيته على على مرأى من الجميع و يضحي بكرامته تضحية لامشروطة ، ومنهم من يحمل حقيبة حياته المدماة ليقحمنا حياته من خلال لايفات مليونية المشاهدة ، ومنهم من صنع ابتسامة هوليودية مزيفة لكل المناسبات، فما عاد للتفكير النقدي مكانا وغاب المعنى والجدوى، فلبس كل منا ثوبه الفرداني بشياكة.
بنيوية التفاهة
يحلل الفيلسوف الكندي “آلان دونو ” في كتابه “نظام التفاهة” ، ما آل إليه العالم الآن وما صارت عليه المجتمعات الآن من التفاهة، إذ يرى أن العالم لن يفنى بسبب قنبلة نووية كما تخبرنا الصحافة …بل بسبب الإبتدال والإفراط في التفاهة والتي ستحول الواقع إلى نكتة سخيفة…بل وغاب المعنى عن مظاهر الحياة الإنسانية إذ تحدث أيضا عن الدعم الأكاديمي المساهم في خلق التفاهة بسبب هوس الحصول على الشهادات العلمية من ماجستير ودكتوراه، فسلعت المعرفة فصار الجامعات متاجرا معرفيا وأضحت الثقافة هي أخرى متجرا ربحيا بأهداف براغماتية و أنانية ، و زركش الصحافي الواجهات بعناوينه وأفكار برامجه وأخبار مشاهير وفضائح يحركها هاجس ربحي ليس إلا، مثيرة استجابة فضولنا الغريزي الذي يهوي بنا لإكتشاف كلما يعجز العقل عن فهمه ، و ارتكابه .لقد اضحت مشاهدة تلك الفتاة التي تستعمل مفردات السب والشتم في فيديوهاتها أمرا ممتعا ومألوفا ومثيرا للإهتمام بشكل غريب يعجز الفهم السطحي عن إيجاد اختزال بسيط له وباتت مشاهدة مقاطع الأكل بكميات خيالية من الطعام أمرا مسليا للغاية وأخبار الفضائح تعتلي المنصات بأرقامها الدسمة ،ومع كل هذا نستمر في استهلاك مثل هذه المقاطع ليل نهار ونلعن تفاهتها جهرا وكلنا مقيدون بنفس السلسلة بدرجات متفاوتة الحدة.
أنظمة تقتات على جانبنا المظلم …
من الجلي أن للأمر جانبا سيكولوجيا مستترا، فهمه من فهمه وتم استعماله بحنكة ودهاء ليروى عطش ماكينات الإنتاج والإستهلاك النيوليبيرالية الجائرة، فأخترقت من خلاله ثغرات النفس البشرية بعناية فائقة وبنيت داخلها أعشاش ومستوطنات تتكاثر وتتوالد بكامل بكتيريتها وتزرع افكارا معينة ،إنها أماكن الظلام، مكامن الشر والتوبة والندم والأحلام أين تحفر آلامنا وجروحنا و أحلامنا ، حيث تقطن وتلتقلي ظلالنا جميعا بعيدا عن من أنا ومن انت،أماكن ننكرها جميعا خلال يومنا . إنها ظلالنا كما سماها” يونغ”، إنها الجانب المظلم و الآخر للقمر …والذي نخبأ عن طريقه صفاتنا المذمومة وميولاتنا الغريبة والفطرية إنها عقولنا الباطنية التي يتم التلاعب بها ، لنخرج للعالم بذوات مزيفة نقية نعيش بواسطتها كذبة التفوق الأخلاقي ا والقوة والتفاخر داخل حساباتنا الرقمية،
إنها حفلة تفاهة جديدة، إنها السيطرة على النفس والجسد وعلى عطشنا لأن نستهلك،و جوعنا الشديد لأن نظهر أكثر قوة وثراء وتألقا على أعتاب بيوتنا الرقمية.