بقلم مندوبة جريدة النهضة
الدولية TV نجاة
جهة / فاس مكناس
لا تزال مكناس، المدينة العتيقة، تتنفس عبق التاريخ، وتحمل بين أزقتها الضيقة وأحيائها الشعبية صورًا نابضة بالحياة، حيث لا تزال بعض العادات متجذرة في النفوس، لا يحول بينها وبين الزمن نسيان أو وزناندثار. ومن بين تلك العادات، عادة التلذذ بالبصارة في أيام الشتاء القارسة، حين تعصف الرياح الباردة، ويغمر الضباب سماء المدينة، فتغدو الأجساد هشة لا تقوى إلا على زاد دافئ يمنحها بعض العزاء.
دفء البصارة ووجدان الفقراء. C
ليس للفقراء في مكناس، ولا في غيرها من المدن العريقة، إلا ما تعودت عليه أيديهم وما ألفته أذواقهم، والبصارة كانت ولا تزال زادهم في الأيام العسيرة، حين تشتد الحاجة، ويصبح البحث عن لقمة دافئة هو السبيل الوحيد لمغالبة قسوة الحياة. إنها أكلة العابرين بين الأسواق، وأولئك الذين لا يملكون إلا بضعة دراهم يقفون بها أمام القدور النحاسية التي تفوح منها رائحة الفول المسلوق، تتناغم مع أبخرة الزيت الحار والكمون المطحون، فتشكل سيمفونية من النكهات لا تقاومها الحواس.
ومن ذا الذي لم يذق البصارة في مكناس وهو يتفيأ ظل مقهى شعبي، يتجمع فيه عمال المعامل، وحرفيو الأسواق القديمة، وحتى أولئك الذين وجدوا في المدينة ملاذًا مؤقتًا من عناء الطريق؟ هناك، حيث يلتقي الغريب وابن الحي، يتقاسمون الكؤوس الساخنة، ويروون قصصًا عن الحياة والمكابدة، كأن البصارة لا تشبع البطون فقط، بل تغذي الأرواح أيضًا.
لقاء غير متوقع
ومن عجائب الصدف، ونحن نهم بدخول أحد المقاهي الشعبية، أن نجد أمين النظيفي، الكاتب والصحفي، يجلس في ركن هادئ، أمام صحن صغير من البصارة، يرتشفه على مهل كما لو كان يستنطق مذاقه، كأنه يبحث فيه عن نكهة مفقودة أو معنى غائب. قلنا له مازحين:
— أهذا طعام الأدباء أيضًا؟
فابتسم وقال:
— وهل يكون الأديب أديبًا إن لم يذق طعام الناس؟
تأملناه وهو يقلب الملعقة بين يديه، ثم قال بصوت يلامس الحنين:
— البصارة ليست مجرد طعام، إنها فصل من فصول الحياة المغربية، تختزل في لقمتها تاريخًا وأزمنة، تحكي عن أيام البسطاء، عن الذين يأكلونها وهم يتدفأون بأحلامهم البسيطة.
حين تغني القصائد للبصارة!
ولأن الحديث يجر الحديث، لم يكن غريبًا أن نستحضر أبيات كعب بن زهير، وهو يمدح رسول الله ﷺ، لكنه – لو كان بيننا اليوم – لربما أنشد للبصارة وأهلها:
“إن الرسول لنور يستضاء به ** مهند من سيوف الله مسلول”
وكأن البصارة، في جوف الفقراء، صارت نورًا يستضاء به في عتمة الأيام، وسيفًا من فول المسلوق، يحاربون به الجوع والحاجة.
البصارة… أكثر من أكلة.
وهكذا، ونحن نخرج من المقهى، كان مشهد المدينة لم يتغير، السماء لا تزال ملبدة بالغيوم، والناس يسيرون على عجل، بعضهم يمسك بكأس البصارة كأنه يستمد منه دفئًا يقاوم به زمهرير الشتاء. لم تكن مجرد أكلة، بل كانت حكاية تصنعها الأيام، تحفظها الأزقة، وترويها مقاهي مكناس، حيث يلتقي الغني والفقير، السائح والمقيم، العابر والمستقر… كلهم في حضرة صحن من البصارة!