إسكات الفلسطينيين في المنظمات الدولية: حياد بارد وظلم فاضح

بواسطة     المندوب الصحفي الحاج محمد بندامية   بفرنسا

 

العالم منشغل بتبرير صمته تجاه الفلسطينيين، كأن الإنسانية باتت مجرد شعار أجوف، يُرفع حين يناسب القوى المهيمنة، ويتراجع حين يتعارض مع مصالحها. في فلسطين، الموت ليس مفاجئا ولا عابرا، بل هو واقع يومي يتكرر بصور مختلفة: قصف، حصار، تهجير، ومحو للذاكرة. النتيجة واحدة دائما، إبادة ممنهجة لشعب، وطمس هويته وحلمه، وكل ذلك تحت غطاء مفزع من «الحياد الإنساني»، الذي لا يعني سوى الانحياز للصمت.
لسنوات طويلة، كان الاحتلال الإسرائيلي يسوّق جرائمه ضد الفلسطينيين، باعتبارها «دفاعا عن النفس»، مستندا إلى آلة دعائية عالمية، بينما نحن نُقتل ونُهجّر ونُحاصر، دون أن تُسمع أصواتنا. الهجمات على غزة في أكتوبر 2023 ليست استثناءً، بل هي استمرار لنهج متجذر من الإبادة والاستعمار. قُتل المئات، ودُمرت المنازل على رؤوس أصحابها، لكن الصمت الدولي استمر، مصحوبا بتقارير شكلية من المنظمات الدولية التي تدّعي الحياد، لكنها في الواقع تسهم في تغييب الحقيقة وتضليل العدالة.

علينا كفلسطينيين أن ندرك أن العالم لن ينصفنا ما لم نأخذ زمام المبادرة ونُصر على رفع أصواتنا. لا يمكننا الاعتماد على مؤسسات تفضل «الحياد» على العدالة

من خلال تجربتي الشخصية في العمل في إحدى هذه المنظمات الإنسانية، أدركت أن الحياد الذي تدعيه ليس سوى قناع لتبرير التخاذل. عندما كانت عائلتي في غزة تحت نيران القصف الإسرائيلي، وحين كان الموت يلاحقهم في كل زاوية، وجدت نفسي أمام تعليمات صارمة تقيدني بالصمت، وتمنعني من تسمية الجاني، أو حتى استخدام أرقام الأمم المتحدة لإظهار حجم الكارثة. كان المطلوب منا أن نبدو كأننا نعيش في فراغ، وكأن القتل اليومي ليس أكثر من «نزاع» عابر لا يستحق الغضب أو الإدانة. «الحياد هو القاعدة الذهبية»، هكذا قيل لنا، لكن أي حياد هذا الذي يُطلب عندما تكون الجريمة واضحة، والضحية مكشوفة، والقاتل يمارس القتل علنًا؟ كيف يُطالب الفلسطيني، الضحية منذ أكثر من ستة وسبعين عاما، بأن يخفي جرحه، ويُخفّض صوته، ويكبت ألمه؟ هذا الحياد ليس سوى انحياز للظالم وإصرار على دفن المظلوم. في الاجتماعات، كنت أرى زملائي من جنسيات مختلفة يتحدثون بحرية عن مآسي شعوبهم. كانوا يروون قصصا مليئة بالعاطفة والتعاطف حول الحروب والنزاعات في أماكن بعيدة، دون أن يطلب منهم أحد أن يخفوا مشاعرهم. أما نحن، الفلسطينيين، فقد كان يُنظر إلينا على أننا مصدر للإزعاج، وأن تعبيرنا عن ألمنا يمثل تهديدا لـ»الحياد». أحد أكثر المواقف إيلاما كان عندما أرسلت لي زميلة فرنسية رسالة تقول فيها: «علينا جميعا احترام الحياد في عملنا. ما يحدث في فلسطين معقد ويحتاج إلى معالجة متأنية». كانت كلماتها، رغم صياغتها الهادئة، تعكس فجوة عميقة بيننا. هي تعيش في عالم لم يعرف الاحتلال أو النكبة، لم تُهدم منازل أهلها ولم تُزرع المستوطنات على أراضيهم. أما أنا، فحملت جراحا عمرها أكثر من ستة وسبعين عاما. بالنسبة لي، هذه الأرض ليست قضية سياسية مجردة أو نزاعا عابرا؛ إنها ذاكرة وتاريخ، وهوية تُمحى بدمٍ بارد.
ما يميز قضية فلسطين هو أنها ليست مجرد مأساة، بل هي نضالٌ مستمرٌ من أجل حقوق إنسانية أساسية: الحق في الحياة، في الكرامة، وفي العودة. ولكن عندما يكون العالم خاضعا لرؤية استعمارية تُهيمن على المنظمات الإنسانية، تصبح هذه الحقوق رفاهية، لا يمكن الحديث عنها. في لحظة صادقة، أدركت أن هذه المنظمات ليست سوى أدوات تخدم أيديولوجيات القوى الكبرى، وأنها تُخضع الحقيقية الفلسطينية لقوالب مشوهة تخدم رواية المحتل. لم يكن الصمت المطلوب منا حيادا؛ كان طلبا صريحا بأن نتخلى عن إنسانيتنا. كيف يمكن لمبدأ الحياد أن يكون حقيقيا إذا كان يساوي بين الجلاد والضحية؟ كيف يمكن أن يكون العمل الإنساني صادقا إذا كان يُجبرنا على تزييف واقعنا؟ خلال عملي، رأيت أيضا كيف تُعامل الأزمات العالمية بشكل مختلف. عندما تحدثت زميلة أوكرانية عن معاناة أسرتها جراء الحرب، قوبلت قصتها بتعاطف كبير، لكن عندما شاركت قصتي عن غزة، كان الصمت هو الرد، كأنما ألمنا أقل شرعية، أو كأن مأساتنا لا تستحق المساحة ذاتها. هذا التمييز الصارخ كشف لي الحقيقة المرة: أن المنظمات الإنسانية ليست سوى انعكاس للعالم الذي نعيش فيه، حيث يتم تقسيم الألم والمعاناة حسب المصالح. الفلسطينيون لا يطلبون تعاطفا سطحيا، أو كلمات مجاملة؛ نحن نطالب بحقنا في أن نروي قصتنا كما هي، دون رقابة أو اجتزاء.
علينا كفلسطينيين أن ندرك أن العالم لن ينصفنا ما لم نأخذ زمام المبادرة ونُصر على رفع أصواتنا. لا يمكننا الاعتماد على مؤسسات تفضل «الحياد» على العدالة. علينا أن نكتب تاريخنا بأيدينا، وأن نحكي قصصنا بصدق وجرأة، لأن ما نعيشه ليس مجرد مأساة عابرة، بل جريمة مستمرة تُرتكب في وضح النهار. رغم كل محاولات طمس الصوت الفلسطيني، يبقى لدينا إرث طويل من الصمود. هذا الصوت الذي يخرج من تحت الأنقاض ومن بين جدران السجون، أقوى من كل محاولات التهميش. لن نصمت بعد الآن، لأن الصمت خيانة لمن رحلوا، ولمن لا يزالون يقاومون. في النهاية، سنظل نصرخ في وجه العالم: «إسرائيل أعدمت رفعت العرير»، وسنروي القصة كاملة، لا كما يريدونها أن تُروى، بل كما هي: قصة شعب لن ينكسر، وحق لن يموت، وصوت لن يُخمد أبدا.
خبيرة التنمية والاتصالات الفلسطينية- الفرنسية

Comments (0)
Add Comment